الحركات السياسية الدينية والحركات المغطاة بغطاء الدين
شبكة البصرة
بقلم : الرئيس صدام حسين
عندما يتم القرار على التعامل الجدي مع اي ظاهرة، او موضوع اجتماعي او سياسي، او غير ذلك، إن كان على مستوى الفرد، او الجماعة، ومن حيث ما يدخل ضمن المسؤولية الاجتماعية العامة للانسان او من ناحية المسؤولية الرسمية في الدولة، فان ذلك يقتضي قبل كل شيء فهم ما هو مطلوب التعامل معه، او معالجته فهماً صحيحاً محدداً، من حيث الابعاد كما هو، وليس كما يتمنى المرء، او كما يخترع من اوصاف، ومستهدفات. وهذا يعني ان يكون الفهم للحالات من حيث نوعها، واهدافها، ومسارها، ومكوناتها فهما موضوعيا، لا ينطوي على افتراض النتائج مسبقا، طبقا للنزوع الذاتي، لأي من المعنيين بالامر، وعند ذلك فإن الموقف بالنسبة للدولة، ومسؤوليتها ينبغي ان يفرق بين ما يقع ضمن الدعاية، اوالمعالجة الظرفية الآنية الملجئة، وبين ما يقع ضمن الفهم الصحيح للأمور، وما يبنى عليه من معالجات، وتعامل مع الظواهر يقع في إطار المسائل الاستراتيجية، في النظرة والتصور وفي اختيار الوسائل الملائمة ايضا، ضمن فاصلة زمنية معينة او لمرحلة تاريخية كاملة.
ومن هذه المقدمة المختصرة، والتي لا بد منها ندخل الى التعامل مع موضوعنا الذي احتل العنوان في حديثنا هذا… النشاط السياسي الديني، او المغطى بغطاء الدين في الوطن العربي.
ابتداء ينبغي ان لا ننسى ان امتنا العربية هي امة متدينة ومكلفة بحمل رسالة او رسالات الدين، وفي مقدمتها الدين الاسلامي، الى شعوب الارض قاطبة. وان هذا التكليف قديم، وليس حديثا وهو الهي وليس “بشرياً”، ولا يقع ضمن رغبة هذا، او ذلك من الاشخاص وانه دائم وليس مؤقتا، اذ ان هذا يتبين بوضوح من خلال ارادة الله سبحانه وتعالى على جعل الوطن العربي حصرا مهبطا لكل الرسالات السماوية، والانبياء والرسل، وما ينطوي عليه القرآن الكريم، الذي هو آخر ما احتوته الكتب السماوية من رسالات، من دور قيادي للعرب في ايصال الدين ومعانيه الى الانسانية، سواء كان بالتبشير والجهاد، او عن طريق النموذج المشع والمؤثر على ما حوله من الناس، لذلك وطبقا لهذه الحقائق فان الدين في الوطن العربي ليس حالة عادية كشأن الحالات الاخرى، مما يهتم بها الانسان العادي خارج الوطن العربي، وانما هو حالة صميمة، ويقع في مقدمة ما هو صميمي مما يهتم به انساننا العربي، ويؤمن به، ويسعى للمحافظة عليه ونبذ الظواهر التي تتعارض مع جوهره فكرا وسلوكا.
ولكن الانسان العربي، الى جانب كل هذا، هو الذي يفهم الدين فهما صحيحا اكثر من أي مدع من غير العرب، حتى لو اخلص ذاك في دعواه. وان الدلائل كثيرة، ضمنا وتصريحا، في القرآن الكريم، وفي سيرة النبي الكريم “ص” وصحبه من الخلفاء الراشدين “رض”..
ومن هذا يفهمون معنى ان الله سبحانه وتعالى، الذي كلف الانبياء والرسل، وانزل الكتب السماوية على التوالي، قد “اكتفى” والى قيام الساعة، من انزال اي كتاب سماوي، او رسول جديد ومن ذلك فان مستوى الانسان، فهما، وتعاملا، ودورا، قد ارتقى الى الحد الذي يستطيع بعد ذلك ان يقوم بما مطلوب القيام به عن طريق ارشادات وتوجيهات الانبياء والرسل، من خلال الخواص الانسانية الايجابية للمجتمع والمجموعة مما يرضى الله عنها سواء كان في التعامل مع الانسان حقوقا والتزامات، وعلاقات اخرى، او في علاقة الانسان مع الله، وعلاقته مع الاشياء، وان يتم كل ذلك بالاجتهاد المستوحى من مسلتزمات تطور الحياة وقوانينها، او من المعاني الدينية ومراميها.
لقد فهم العرب منذ البداية ان الدين في جانب اساسي منه، هو رفض السيء المرفوض في الحياة الاجتماعية، واقامة الجيد المقبول في المجتمع عن طريق العدالة الاجتماعية. وعلى اساس هذه المفاهيم مجتمعة تعاملوا مع الحياة, و واجباتهم الدينية داخل العائلة والمجتمع ومع النفس, او عندما يتوجهون الى الله العلي القدير.
ومن هذا نفهم كيف ولماذا لم يحصل الالتباس والخلط في ذهن العرب والمؤمنين، بين ايمانهم بالدين الحنيف ودورهم القيادي، وبين ادعاء الدور القيادي من خلال غطاء الدين لغير العرب، ومنهم العثمانيون الذين استعمروا العرب من الناحية الفعلية باسم الدين فثار العرب ثورتهم المعروفة للتخلص من الحكم العثماني، مع كل ما كان يعترض هذه الثورة من ادعاءات التعارض بين الثورة، ورفض ذلك التسلط ونظامه، وبين الدين. ومن خلال فهمهم الصحيح للدين ومعانيه واهدافه، فهموا كذلك ان الدعوة لطمس وقتل الخصوصيات، ومنها الخصوصيات الوطنية والقومية، في دعوة مضللة وغايتها تسليط غير العرب على العرب، وعند ذلك يسلب دورهم الديني والانساني وتتحطم شخصيتهم القيادية داخل الأمة الاسلامية التي ليس هنالك تعارض بينها، وبين الامة العربية، لأن معنى الأمة الاسلامية هو الدين المشترك، ومعنى الامة العربية هو الانتماء القومي الواحد.
ان كل هذه المفاهيم وغيرها، بما في ذلك الانحراف عن خط الفهم الصحيح للدين، ودور العرب فيه، كانت ومنذ ظهور الدولة العربية الاسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، وما بعدهم محل شد وجذب، وصراع، وصعود، وهبوط في رصيد التيارات الدينية. ومن الطبيعي ان تجد التيارات الشعوبية لها ميدانا في هذا الاطار، ومتى ما تراجع دور العرب فيه، من حيث الفهم الصحيح، او السلوك الصحيح، لذلك يجب ان لا نقع في الخطأ، فنتصور ان الحركات الدينية، او من يتغطى بغطاء الدين في الوطن العربي هو من تأثير خميني والخمينية حسب، لان هذا افتئات على الحقيقة وفي نفس الوقت، فان نسب الظواهر الى غير اسبابها الحقيقية، يوقع المعنيين بالوهم والخطأ، ويبعدهم بالتالي عن واجبهم الصحيح في التعامل المنطقي والعقلي والعملي مع الظواهر، سواء عن طريق التفاعل الصحيح معها، او مكافحتها،عندما نُبعِد عن مناقشة الظواهر الصحيحة في التيارات الدينية، واعني بذلك تذكير الشعوب والامم بواجباتها الدينية، والدنيوية الصحيحة، مما يرتبط بحقوق الله، وحقوق الانسان والعلاقات الانسانية الصحيحة رغم ان بعض هذا، وخاصة ما يتعلق بحقوق الانسان، والعلاقات الانسانية الصحيحة، هو الاخر، يفتح الابواب لاجتهادات واسعة، ليس من مسؤوليتنا وواجبنا، الخوض فيها، اقول رغم ذلك فلنترك هذا جانبا، ونتناول الصلة بين الحركات ” السياسية الدينية”، وبين الانظمة في الوطن العربي، وما هي المعالجات الصحيحة لما هو ضار، او غير مرفوض منها ابتداء.
ان الحركات السياسية الدينية في الوطن العربي، ولهذا القرن، قد نشطت واتسعت في العشرينات والثلاثينات، وتقلص دورها في الاربعينات، والخمسينات باستثناء مصر والسودان، وحتى بداية العقد الخمسيني من هذا القرن.
وان من الحقائق المعروفة هي ان مقاومة العرب للاضطهاد العثماني، وثورتهم عليه كانت مقاومة قومية، وليست دينية، ولاسباب هي الاخرى، ليس هنا مجال الحديث عنها. وعموما فان التحرر من الاضطهاد العثماني ودولته، والتحرر من الانجليز والفرنسيين في المشرق العربي، جاء تحت لواء الشعور والتعبئة القومية، والوطنية، وليس تحت شعارات دينية رغم ان ديانة الفرنسيين والانجليز هي غير ديانة الاغلبية الساحقة من العرب الا ان التحرر من الاستعمار الفرنسي والايطالي في المغرب العربي قد اختلطت فيه الشعارات الدينية والوطنية والقومية، وان الشعارات الدينية والوطنية في الجزائر كانت هي الظاهرة، رغم ان دور العرب في مساعدة الجزائريين على التحرر، وخاصة دور مصر، كان اظهر من دورهم في مساعدة المغرب وليبيا, وتونس, على التحرر، ولكي لا نتوسع في هذا نعود لنقول حقيقتين اساسيتين ينبغي ان لا تغيبان عن بال العربي المسؤول وهما :
ان دور الشعوبية، من خلال الدين في استهداف العرب، يظهر عندما يتخلى العرب عن دورهم الريادي المشع، وعندما يمارس العرب دورهم الريادي القومي المشع ايضاً، ففي الحالة الاولى يظهر الشعوبيون لملء الفراغ، وفي الحالة الاخرى يظهرون لمقاومة المد، والدور القيادي للعرب، وان تاريخ العرب الحيدث والقديم مليء بالشواهد التي تدعم ما نقول، وعند ذلك، على العرب ان يحسبوا ذلك من جملة ما يحسبون من سلبيات في حالة تخليهم عن دورهم القيادي، وان يتحسبوا جيدا منه عندما ينهضون لممارسة دورهم القيادين، وبذلك نستطيع ان نرى بدقة وبمنظار صحيح جانبا من التيارات الدينية، او ذات الغطاء الديني، في الوطن العربي ونحسن التعامل معها.
لا بد ان نقول ابتداء ان لكل اختيار طريقة وتضحيته كذلك، ومن ذلك فلا نتصور ان انتقال العرب الى بناء دولهم الوطنية، واختيارهم طريق العصر في التقدم، لا ينطوي على تضحيات، ومن بينها ارتجاج المفاهيم لدى بعض المواطنين العاديين، بما يجعلهم غيرقادرين على فهم بعض مما تفرزه ظروف الحكم والتطور، وفي نفس الوقت ارتجاج مفاهيم بعض المسؤولين الى الحد الذي لا يحسنون فيه اقامة التوازن العملي، والمبدئي الصحيح، بين بناء الدولة العصرية الحديثة، ومستلزماتها وحاجاتها وظرفها، وبين ما هو مطلوب من تبصير وتفاعل، ومشاركة، وفهم للشعب ليس في اقليته فحسب وانما في اغلبيته كذلك.
لم يواجه العرب التيارات السياسية الدينية في العصر الحيدث كحالة قائمة تقتضي الفهم الصحيح الا عندما اقاموا دولهم العصرية، وعندما اصبح المسؤولون عن تصريف هذه الدول عربا مسلمين في اغلبيتهم المطلقة، وعند ذلك اصبحوا مسؤولين، من وجهة نظر التيار الديني المسيس، عن الانحرافات والاخطاء في الدولة، او في المجتمع، بعد ان كان المسؤولون عن اخطاء، وانحرافات الدولة هم الاجانب (الاتراك، الانجليز، الفرنسيون، الايطاليون) اما الانحرافات، والاخطاء، والخطايا التي كانت تظهر في المجتمع فانهم كانوا يربطون مسؤوليتها باشخاصها، مرتكزين في ذلك على الانفصال بين الشعوب، وبين الحكام انذاك، وهكذا اتحدت مسؤولية الانحراف والخطايا والاخطاء، من وجهة نظرهم، لتقع على الحكام، بعد ان كانت موزعة بينهم، وبين الشعوب وفي نفس الوقت علينا ان لا نغفل ان الاحباط غالباً ما يقود اما الى القنوط والانعزال، او الى رد فعل غير متوازن، وان اختيار البدائل الفكرية، ونظريات العمل القادرة على استيعاب شروط الحياة وقوانينها ليس مهمة سهلة وعلى هذا الاساس فحيثما فشلت الحالة الفكرية، او السياسية المحددة. اهدافا و وسائل، فان جانبا من المعنيين، والمجتمع غالبا ما يرتدون الى التعميم، او التعلق بقيم ترتفع عن ارض الواقع الذي سبب الاحباط، حتى عندما لا تكون هي السبيل للخلاص والانقاذ من الناحية الواقعية. ويكفي في هذا ان تكون الامل الذي يعالج ما في النفوس من احباط، حتى ولو الى حين، او على امل الخلاص من خلال التمنيات، والتعلق الروحي العام بالقيم، وتجد هذا ليس في صفوف الرافضين للمرفوض، حتى لو انهم لم يهتدوا الى البدائل الصحيحة، او المحبطين سياسيا وفكريا فقط , بل حتى اولئك المحبطين في قضايا شخصية اجتماعية حياتية وان مجتمعنا يعج بالامثلة منها، ناضل العرب تحت شعار اساسي هو الشعار القومي.
ولقد كان نضالهم كما قلنا قوميا, وطنيا سواء في التخلص من الاجنبي، او في بناء دولهم العصرية الحديثة. وكان ابرز كيانات التحدي القومي لهم هو الكيان الصهيوني وابرز رموزهم في مواجهة هذا التحدي هو مصر ونظام عبد الناصر. وقد اهتزت هذه الصورة لدى الغالبية من الذي لا يستطيعون الاهتداء الى الطريق السوي، ان كان بعقولهم وفعلهم او في ضمائرهم، عندما ظهر او تهيأ لهم ان المنازلة تحت هذه الشعارات والرمز قد هُزمت وانتصر التحدي. فبعضهم قد انكفأ الى داخله يشاغل النفس بالقنوط والتخلي المؤقت منتظراً الانقاذ من خارجه عن طريق تغيير الظرف، والصورة من خلال الغير، وبعضهم راح يفتش عن طريق يعتقد بأنه مهيأ ولكنه لم يُجرَب “بفتح الراء” وهو طريق الماركسية، وانظمتها الشيوعية، وبخاصة عندما يستذكرون المقارنة بين مواقف الاتحاد السوفيتي، وبين امريكا، مما ظهر في حرب عام 1967، وما اعقبتها من نكسة حيث انحاز الأول الى الموقف الصحيح في جانب العرب فيما انحازت اميركا الى جانب اسرائيل والبعض الاخر بعد ان تخيل ان التخصيص (اي القومية العربية ونظامها) قد “انهزم”، راح الى التعميم الديني، وقد ظهر هذا التيار مرة اخرى في الوطن العربي بفعالية سياسية ملحوظة، بوجه خاص بعد حرب عام 1973، وبعد فشل التجارب الماركسية، والمحاولات الحزبية الاخرى، في بناء نموذج مشع، او في التعبير عن ذاتها تعبيراً مشعا مستقطِبا (بكسر الطاء). واذا ما اضفنا هذا كله هو ان بناء الدولة العربية الحديثة قد اعتمد في مساره اللاحق للاستقلال على القلة المثقفة وان السعي لبناء التنمية الاقتصادية والتطور العلمي، والتقني قد زاد من دور التكنوقراط، ومفاهيمهم وقيمهم في انظمة الدول على حساب المفاهيم والقيم المبدئية والشعبية وان الأنظمة العربية لم تستطع الموازنة بين ما يقتضي من هذا، او جوانب اساسية منه وبين ضرورة عدم غياب وحضور التفاعل الحي مع البساطة المباشره لاتجاهات الجماهير الواسعة وتطلعاتها وارهاصاتها، ومشاكلها، وتحويل هذا التفاعل الى حالة يومية تعكس معانيها اهدافا ووسائل.. معالجات ورؤى، على شؤون الحكم وطريقة بناء الدولة ومسؤولياتها وتركيبها وسلوكها العام والخاص ومن ذلك ندرك الفجوة التي تركها ذلك بين العامة و”الخاصة”، بين انظمة الحكم واجهزتها، وبين الجماهير بقطاعاتها الواسعة، واذا ما عرفنا ان كلا من الشعوذة او التمرد، بغض النظر عن افتراق النوايا والاساليب، غالبا ما يجد ان مناخاً صالحا في الغموض او بين اوساط الجماهير البسيطة ادركنا ان قطاعا واسعا من جماهير شعبنا العربي ممكن ان يثور بعضها عن طريق البصيرة الهادية وبعضها عن طريق اخر ليس امامه غيرالرفض، واحيانا الرفض العنيف حتى لو لم يكن مقتنعا بالبديل المطروح او لا يرى بديلاً للمرفوض عندما لا يكون ثمة مخرج امامه الا الرفض، والا الرفض بهذا الطريق.
لقد تمكنت انظمة الحكم في الوطن العربي ان تتعايش او تروض او تهتدي الى وسائل المكافحة للكثير من الحركات السياسية المخضرمة في الوطن العربي، وهذا يطرح على نوع معين من الجمهور الرافض فكرة اما الاتيان بجديد من التنظيم او التخلص من تركيز اجهزة الحكومات على الخاص من خلال الذهاب الى العام. وهنا اصبح التيار الديني هو العام المطلوب لما مر ذكره من اسباب لقد ارتكب شاه ايران ليس الانحراف الذي يستحق عليه الحساب في مجرى النظرة الى المسؤولية وممارستها فحسب وانما ارتكب خطأ فادحا كذلك يوم تصور ان بامكانه ان يقيم دولة عصرية حديثة على غرار المقتبس من الافكار والسلوك والمعالجات الغربية، وبذلك فانه قد انفرد برأي وسلوك غربيين مقطوعي الجذور عن شعبه.
وقد وقع في الخطأ اكثر عندما استسلم او سلم مقاليد الامور لفئة التكنوقراط من خريجي المدرسة الغربية، عقيدة وسلوكا، وتصور ان تلك الفئة قادرة دون غيرها ان تحقق له احلامه تلك.
وفي خضم التنمية الاقتصادية نسي ان يفهم ان التنمية لا تتحقق بصوره عرجاء، وانها ان ارتكزت على الجانب الاقتصادي والعلمي فحسب، فسوف تقع في التهلكة وتختل موازنتها وارضية المجتمع ككل من الناحية الاجتماعية والنفسية والثقافية, فكيف اذا كان الخلل موجود كذلك في اصل النظرة الى التنمية الاقتصادية نفسها ؟
لقد افرزت الرغبة الاحادية النظرة الى التنمية والبناء السريع المزيد من الامراض المهلكة في المجتمع الايراني، وزادت على امراضه امراضا، في الوقت الذي زادت على امراض الحكم وامراضه انحرافات اضافية، وازدادت تبعا لذلك الهوة بين الحكم والشعب وعزل الشعب القلة، او انعزلت القلة هي نفسها عن الشعب في الحياه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية فحصل التباين.
والصراع بين طبقتين : القلة من المنتفعين ومتصلبين بصورة او بأخرى بالنظام ومصالحة والكثرة المحرومة المسحوقة من الشعب، بالاضافة الى ان اجراءات التمدن المعاصرة التي اتخذها الشاه او كان ينوي اتخاذها قد اصطدمت في جانب منها مع رجال الدين وطريقة تعاملهم مع الشعب وادارتهم للمؤسسة الدينية في ايران ذات الطبيعة الخاصة وبذلك اتحدت تمنيات ورغبات ومصالح واهداف الشعب ورجال الدين والتنظيمات والحركات السياسية مرة واحدة ضد شاه ايران، فاذا ما أضفنا الى هذا أن صعود مستوى الصراع بين القلة والكثرة كان يتجه الى مستوى الصراع الطبقي وان مثل هذه الحالة تضع الولايات المتحدة والاستراتيجية الغربية برمتها في مجرى المخاوف الشديدة على مسقبل ايران من الشيوعية والاتحاد السوفيتي، مما دفع الى التفكير الفعلي بالتخلص من الشاه، بالاضافة الى اعتبارات اخرى تخص استراتيجيتهم في المنطقة، مما لا يتسع المجال لذكرها الآن وقد زاد في الطين بله ان الشاه قد شجع تيارات وفرقا تعتبر ملحدة من وجهة نظر ديانة الاغلبية من الشعب.
وان ما يفيدنا في هذا الصدد هو القول ان النضال ضد حكم الشاه، والذي اصطبغ بالصبغة الدينية في جانبه المرجح، انما يقع هو الاخر ضمن اطار التفسير العام لما ذكرناه من قبل، بالرغم من خصوصية المجتمع الايراني الذي ينفرد فيها عن خصوصية الوطن العربي. ومن بين ذلك فان التناقض قد حصل بين الشعب “الاغلبية”، وبين الحكام في طريقة ممارسة الحكم ومستهدفاته، وفي الايمان بالله او طريقة التعبير عن ذلك بما هو مناقض لسلوك، وتفكير الجماعة ولذلك اخذت الثورة الايرانية الطابع الذي اخذته.
عندما نقول ان الاسلام ثورة فلا نعني في ذلك ما يتصل بالعلاقات الانسانية على الارض، وما ينبغي من تصحيح لمسارها المنحرف فحسب، وانما نعني، كذلك تصحيح المسار المنحرف، او الكافر فيما يتصل بالعلاقة بين الانسان، والله الواحد الاحد، ولذلك فان الدين الاسلامي وهكذا الديانات السماوية الاخرى لم تتعاقب كحالة من حالات تجديد الديانات، وممارسة معانيها، وطقوسها عن طريق الديانة الجديدة المتناسبة مع ما احرزته البشرية من تطور في السلوك، والعقل فحسب، وانما هي ثورة لأنها كانت تضع الامور في نصابها فيما يتعلق بالعلاقة بين الانسان، والله الواحد الاحد ايضا.
وهكذا عندما كانت تقام الدول الدينية، وتمتد الى ما تمتد اليه من شعوب وامم، فان تلك الشعوب، والامم تصبح جميعها في وضع افضل من النواحي الانسانية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، ومن الناحية السياسية وقبل هذا، بل وفوق هذا ايضا، من ناحية اليقين, والاهتداء الى سواء السبيل بعد الضياع والكفر، ولم يشهد العالم، والوطن العربي دولة دينية ضمت امما شتى بإرادة شعوبها الا تحت تأثيرات هذه المفاهيم. ومن ذلك تبرز جملة حقائق لا بد من حصرها على وجه التحديد، من بينها ان انحراف الحاكم ونظام حكمه لوحده لا يكفي لاقامة دولة دينية قائمة على القناعة بها من قبل الاغلبية المطلقة من الشعب في عصرنا اليوم، وتضم امماً وشعوباً مختلفة، بل لا بد، بالاضافة الى انحراف الحاكم ونظام الحكم، من انحراف الاغلبية من الشعب عن طريق الهداية، ووحدانية رب السماوات والارض, وكذلك فان الانحراف في شؤون الحياة والحكم للحاكم، والمحكوم لا يكفي لوحده ايضا لتقبل الشعوب فكرة الدولة الواحدة لشعوب، وامم متباينة، حتى ولو الى حين كما تقبله في حالة ما اذا امتد الانحراف الى العلاقة بين الانسان والله ومن بين ذلك نكران الله سبحانه وتعالى تحت تأثير الدين الجديد، ومميزات دولته الواحدة، التي اخرجت الشعوب والامم من الظلمات الى النور، ان كان في الهداية الى الله بعد الضلال، او في انقاذ الأمم والشعوب من الاضطهاد، والانحرافات المهلكة في الحياة الاجتماعية والسياسية، مما كانوا يعيشونها في ظل الانظمة السابقة، كما حصل عندما تكونت دولة العرب المسلمين الاولى في المدينة والشام وبغداد، والاندلس لأن انحراف هذا الحاكم، او ذاك عن الطريق الصحيح لا يفضي بالضرورة الى خروج المواجهة والمعالجة عن وسائل عصرها واهدافه، ومن بين ذلك اقامة نظام حكم بديل على انقاض نظام الحكم المرفوض، او استبدال الحاكم بحاكم يكون قادراً على الاستجابة لاماني الشعب وطموحاته.
ومن دروس ما ذكرناه كذلك ان النشاط تحت جناح الشعارات الدينية، والدعوات الدينية ممكن ان يؤدي الى اسقاط بعض الانظمة السياسية كوسيلة من وسائل العام بعد ان يفشل الخاص مما ذكرنا ولكن الامر سيختلف قطعيا عندما يصبح بعض من العام خاصا ويصبح المعارضون حكاما، مطلوب منهم ان يتعاملوا مع الحياة ومع الدين، ليس وفق العام من المفاهيم التي كانت ترتكز على رفض ما هو مرفوض بالدرجة الاساس، وانما لا بد من توضيح الطريق الى ما هو مطلوب، ومرغوب كذلك ضمن الحياة.
وفي نفس الوقت لا بد من الانتقال من العام في المفاهيم الى التخصيص في كل ما يتصل بتفسير صلة الدين بالانسان، بموجب احكام الدين وتفسير القائمين عليه وصلة الانسان بالانسان وصلته بالحاكم والحكم، وطريقة الحكم، والنظرة الى الاقتصاد والموارد المالية، والى العلم والتقنية، والى الارث والمرأة، ودورها وطريقة التعامل معها، وكل ما يتصل بالعلاقة بين الانسان وربه، وطريقة التعبير عن هذه الصلة “العبادة”.
وعند ذلك ستحل الاجتهادات الخاصة محل العام المعوّم، وسيكون التحديد مجرد اجتهاد لهذا، او ذلك داخل المذهب الواحد، والدين الواحد، مما يقود الى الحق في اطلاق وقول اجتهادات متباينة، ستؤدي الى الاختلاف حد الاحتراب، طالما اندمجت السياسة بالدين، ووصلت الى “منبريهما” العلوي.
وبذلك يتحول المذهب الى مذاهب او فرق، ويتحول الدين الى ما يحشر العام في الخاص، والخاص في العام, حتى تغدو الممارسة والسلوك كأنهما اقرب الى مجرد دين جديد غير سماوي منه الى الدين السماوي… ان الشعارات الدينية، اذن، والسياسة المغطاة بغطاء ديني يمكن ان تفضي الى سقوط هذا النظام، او ذاك في الوطن العربي، او في الدول الاسلامية بعامة، ورغم اننا لا يجوز ان نقول ان ليس كل الذين يعملون في اطار هذا التوجه بعيدين عن الدين، والنية الصادقة، ابتداء من صلتهم بالدين ومعانيه السامية، علينا ان نقول بوضوح قائم على يقين عميق لا يسمح بالتردد، بأن هذا التوجه يعج من جهة اخرى بمرتكبي الكبائر والمعاصي وخاصة في الحركات ذات الاغراض الغاطسة والمغطاة بغطاء الدين من الحركات الشعوبية ممن لا تتعدى صلتهم بالدين الصلة الشكلية الانية المؤقتة فحسب، للعبور الى هدف سياسي هو قلب بنظام او انظمة حكم معينة ليس الا، فاذا كان التحليل ينطوي على القول القاطع بأن مثل هذا التوجه قد يفضي الى ما يسقط هذا النظام او ذاك، دون ان يهتدي الى اعطاء البديل الناجح، والقادر على الاستمرارية بعد سقوط الانظمة المستهدفة فان الشعب سوف يقاوم ذلك ابتداء، ولا يتفاعل مع حاملي شعاراته.
ان مثل هذا الاستنتاج ليس صحيحاً دائما الا عندما تحضر شروطه، وفي مقدمة ذلك شعب واع متوازن نظرة وسلوكاً، وانظمة حكم غير منحرفة او فاسدة، لأن ليس كل الشعب، وفي كل الظروف والاحوال، يبحث عن رؤية واضحة للبديل عندما تتجه قناعته الى التخلص من نظام عن طريق الثورة، او الانقلاب. ويكفي بعض الشعوب، في ظروف خاصة، ان تحكم على نظام الحكم بأنه غير صالح، وان لا طريق غير طريق الثوره والانقلاب للتخلص منه، وفي هذا وعلى وجه التحديد يكمن جانب من الخطورة مما يمكن ان تتعرض له المجتمعات الاسلامية والعربية من اهتزاز، وعدم استقرار، وتسلل الحركات ذات النزعة والمنهج الشعوبي. وهنا يمكن ان يلتبس على اوساط معينة من الشعب، وفي ظروف خاصة كذلك، التعرف على التيارات ذات النزعة الشعوبية، من التيارات التي تستهدف الكيان العربي، ومبادئه، وقيمه اساسا، وبغض النظر عن هذا الحاكم او ذاك، او هذا النظام، او ذاك.
ويبقى الطريق الذي ليس بمقدورنا رؤية غيره هو الطريق الواحد الذي يتوحد فيه الشعب والنظام والقيادة، ليس على اساس المواجهة الظرفية، واخطارها المحدقة، وانما على اساس الايمان، واليقين المستقر بهذا الطريق الذي يضع الحاكم في موقع الخادم حتى وهو في موقع القائد، او الحاكم الاعلى، وان يعملوا جيمعا في بناء مجتمعاتهم، ودولهم وفق نظرة متوازنة، واساليب متوازنة تأخذ في الاعتبار ما يتحمله الواقع دون ان تحشره في زوايا ضيقة من التمنيات النظرية فحسب، وعدم الرضوخ للواقع كما هو، والوقوف عند حالة دون تطوير جذري كذلك، وان يكون الوضوح في الاهداف والوسائل هو طريق الجميع بما يمنع الالتباس، والانحرافات والشطط، وتطرد الهداية، والعدالة الخبثاء، والمتلاعبين ولا يمكث في الارض الا ما ينفع الناس. وفي كل الاحوال فان طريق الخاص القومي، والوطني، القائم على حساب ما مر من اعتبارات والايمان بما مطلوب والايمان به منها، هو الطريق الجديد لسعادة الامة ووحدة ارادتها، والتعبير عن روحها، وهو طريقها في نفس الوقت لمعالجة الانحرافات والاخطار، وحيثما احتجب هذا الطريق هو ومفاهيمه، او اهتز، وجدت الطرق والوسائل الاخرى سبيلها الى الانسان العربي، حتى ما كان منها مرفوضا في عرف العامة خارج محنتها، وظرفها الصعب…
والله الموفـق