ميشيل عفلق في من خطابه على مدرج الجامعة السورية “5 أبريل 1943م

ميشيل عفلق في من خطابه على مدرج الجامعة السورية “5 أبريل 1943م”..في
مثل هذه الحفلات يخطر لي دوماً سؤال: ما هي قيمة الكلام؟ لم نعرف في
تاريخنا زمناً كثر فيه الكلام وطغى على كل شيء مثل هذا الزمن الذي نعيش
فيه، ومع ذلك فهو أقل العهود حيوية وإنتاجاً، فهل يكون الكلام إذا مساعداً
على الشلل والعقم، بدلاً من أن يكون دافعاً إلى العمل وخصب النفس؟ هناك فرق
جوهري بين الكلام المرتبط بقائله الذي يعبر عن حاصل شخصية حية وعن موقفها
الكلي من الحياة، وبين الكلام المنفصل عن الشخصية الذي لا يعني غير ذهن
يلهو ولسان يهذر، كان العرب شديدي التأثر باللفظ، لأن الألفاظ كانت عندهم
حقائق نابضة مترعة بالحياة، فكان يسمعها القلب لا الأذن، و تجيب عليها
الشخصية كلها لا اللسان وحده، لذلك كان للفظة قدسية وكانت بمثابة تعهد،
تربط الحياة وتتصرف بها، سواء حياة الفرد أم حياة الجماعة.فاللفظة
التي كانت كالورقة النقدية تمثل قيمة معينة من الذهب، غدت اليوم مجرد
قصاصة من الورق ليس وراءها ما يضمنها، فنحن نرى نفساً فقيرة إلى حد العدم
تستطيع أن تغرق ما حولها ببحر من الكلام، وليس من يطالب بأن يكون وراء
الكلام عمل يضمنه، فلا غرابة في أن تفقد الثقة وتلتبس الأمور ويكثر الغش
والتلاعب وبالنتيجة الإفلاس والفضيحة.نحن أمام حقيقة
راهنة هي الانقطاع بل التناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب، كانت
الشخصية العربية كلاً موحداً، لا فرق بين روحها وفكرها، بين عملها وقولها،
أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياة العربية تامة ريانة مترعة
يتضافر فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية، أما نحن فلا نعرف غير
الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها
العقل فإن الروح تجفوها، وإن داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها: إنها فكرية
جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبداً محرومة من بعض القوى الجوهرية، وقد آن
لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية
تمامها، يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها
إلى العمل العفوي الطلق الغني القوي المحكم الصائب..كان
انتسابنا لأجدادنا الأبطال انتساباً رسمياً لا أكثر، واتصال تاريخنا
الحديث بتاريخنا المجيد اتصالاً طفيلياً لا عضوياً، اليوم يجب أن نبعث فينا
الخصال ونقوم بالأعمال التي تبرر نسبنا الرسمي وتجعله حقيقياً مشروعاً،
يجب أن نزيل ما استطعنا من حواجز الجمود والانحطاط حتى يعود الدم الأصيل
المجيد فيتسرب إلينا، يجب أن ننقي أرضنا وسماءنا حتى تستأنس أرواح الجدود
الأبطال فتهبط إلينا وتستطيب الهيمنة فوقنا.ظللنا
زمناً طويلاً نعيش في جو ثقيل خانق لأنه كاذب: طلاق بين الفكر والعمل، بين
اللسان والقلب، كل لفظة نقولها تحدث جلبة الوعاء الفارغ، ووقراً في الأذن
والنفس، لأنها مفرغة من معناها، كل كلمة نقرؤها تحدث ارتعاشاً في بصرنا
وألماً، لأنها تتراءى لنا كالشبح والظل تذكرنا بشيء انقطع عهدنا به، وهي
تحزننا كمرأى طلل هجره ساكنوه، فيجب أن نعيد إلى الألفاظ معناها وقوتها،
مقامها وحرمتها أن نجعل لكل لفظة موقفاً في الحياة مقابلها، أن تجعل اللفظة
مخبرة عن عمل قمنا به بعد أن كانت مذكرة بعمل عجزنا عنه، علينا ألا نقول
إلا ما نقدر على تحقيقه، حتى يأتي يوم نقدر فيه أن نحقق كل ما نقوله.الإسلام تجربة واستعداد دائم..أيها
السادة: إن حركة الإسلام المتمثلة فى حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة إلى
العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان، وبالأسباب والنتائج،
بل إنها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب
المطلقة، أي أنها صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية
وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً
في روحها، لا في شكلها وحروفها، فالإسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن
القوى في الأمة العربية فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود
الإصطلاح، مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب
والحماسة فتنشأ تعبر عن إعجابها وحماستها بألفاظ جديدة وأعمال مجيدة، ولا
تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية، فتفيض على الأمم الأخرى
فكراً وعملاً، وتبلغ هكذا الشمول، فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة
الأخلاقية العصيبة كيف يتمردون على واقعهم وينقسمون على انفسهم، في سبيل
تجاوزها إلى مرحلة يحققون بها وحدة عليا، وبلوا فيها نفوسهم ليستكشفوا
ممكناتها ويعززوا فضائلها.وكل ما أثمر الإسلام فيما
بعد من فتوح وحضارات إنما كان في حالة البذور في السنوات العشرين الأولى من
البعثة، فقبل أن يفتح العرب الأرض فتحوا أنفسهم وسبروا أغوارها وخبروا
دخائلها، وقبل أن يحكموا الأمم حكموا ذواتهم وسيطروا على شهواتهم وملكوا
ارادتهم، ولم تكن العلوم التى أنشأوها والفنون التي أبدعوها والعمران الذي
رفعوه، إلا تحقيقاً مادياً جزئياً قاصراً لحلم قوي كلي عاشوه في تلك
السنوات بكل جوارحهم وإلا رجعاً خافتاً لصدى ذلك الصوت السماوي الذي سمعوه
وظلاً باهتاً لتلك الرؤى الساحرة التي لمحوها يوم كانت الملائكة تحارب في
صفوفهم، والجنة تلمع من بين سيوفهم.هذه التجربة ليست
حادثاً تاريخياً يذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الأمة العربية –
إذا فهم الإسلام على حقيقته – لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على
الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم على نفسها لتصل إلى الوحدة العليا
والانسجام السليم، وهى تجربة لتقوية أخلاقها كلما لانت وتعميق نفوسها كلما
طفت على السطح، تتكرر فيها ملحمة الإسلام البطولية بكل فصولها من تبشير
واضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل، إلى أن تختم بالظفر النهائي للحق والإيمان.