عندما نتحدث عن الدين والتراث باعتزاز يجب أن نفهم ان فلفستنا ليست التراث ولا
الدين بحد ذاتيهما , ان فلفستنا هي : ما تعبر عنها منطلقاتنا الفكرية
وسياستنا المتصلة بها , وان الامور المركزية في مجتمعنا والمؤثرة في خلقنا
وتراثنا وتقالدينا هو الماضي بكل ما يحمل من عوامل الحياة وتقالديها
وقوانينها , وكذلك الدين … ولكن عقيدتنا ليست حصيلة جمع كل ما يحمله الماضي
والدين , وانما هي نظرة شمولية متطورة للحياة وحل شمولي لاختناقاتها
وعقدها لدفعها الى أمام على طريق التطور الثوري وعندما وجدت عقيدتنا جرت
صياغتها بالشكل الذي تكون فيه مترشحة عن واقع أمتنا ومتقدمة عليه في نفس
الوقت . وعندما يشكل التراث والدين رافدين أساسين وحيويين في هذا الواقع , فأن تأثيرهما سيكون حيويا على عقيدتنا وهنا أسأل : هل
كانت الشهامة والصدق والشرف موجودة عند العرب قبل الأسلام أم لا , كيف كانت
وماذا أصبحت بعد الاسلام وهل هي نفسها قبل الاسلام وبعده ؟ ولابد
أن يكون الجواب .. ان مقاييس للشهامة وللشرف وللصدق وللتعامل في شتى
ميادين الحياة , كانت موجودة قبل الاسلام ولكنها ليست هي ذاتها بعد الاسلام
, فقد تحولت وتغيرت مقاييسها بتغير المجتمع وعقدته وتغير موضوعاته
المتداولة. اذن ,
فان مقاييس الشرف والشهامة وعموم التقاليد والقيم الاجتماعية الاخرى هي
مقاييس موضوعية متطورة , وهي عندما تبدو مطلقة ضمن صيغ التطور في كل مرحلة
من المراحل المتعاقبة فانها نسبية في حسابات النظرة الشمولية للحياة في
حركتها العامة المجردة عن خصوصيات المراحل الزمنية وامكانية والحالات
المحددة الاخرى . أن
الافكار والمنطلقات الاساسية حول هذه الامور قيلت من قبل حزبنا منذ وقت
طويل , أما الان فاذا ما حصل خلل ما فأن يكمن في السياسيات وفي عدم قدرتها
أو قصورها في أن تعكس بشكل صائب المنطلقات الفكرية للحزب في معالجتها لهذه
الامور … وليس في منطلقات الحزب الفكرية . اؤكد
, مرة ثانية تعبيرا عن موقف حزبنا وقناعتي الصميمية بهذا الموضوع , أيضا ,
أن حزبنا ليس حياديا بين الالحاد وبين الايمان وانما هو مع الايمان ,
دائما ولكنه ليس حزبا دينيا , ولا ينبغي أن يكون كذلك . هناك
طرق شتى في العمل التكتيكي وتعبيراته أما النظرة الاسترايجية فلها طريق
واحد , فأحيانا يتصرف البعض على أساس يجعل التعتيم والتعميم وفق حسابات
التكتيكية وسيلة من وسائل كسب الاغلبية , ولكن يبقى التخصيص والوضوح في
النظرة والمعالجات الستراتيجية هما الوسيلتان الحاسمتان في كسب الاغلبية من
الشعب . وفي
هذه المرحلة مطلوب منا التخصيص والدقة والمنهجية الواضحة والمعبرة عن فكرنا
في النظرة للمجتمع , ومن بينها النظرة الى كل ظواهر الحياة وشؤونها . أن
التعتيم والميوعة والتلون ليس وسيلتنا في كسب الاغلبية , لاننا لا نريد كسب
الاغلبية ضمن حدود زمنية معنية ولقضايا مؤقتة لتجاوز مأزق مؤقت , ولا نريد
أن نستخدمها تحقيقا لهدف أو أهداف انية او مرحلية ثم نلفظها ونتنكر لها في
مرحلة لاحقة كما يفعل اليمينيون وبعض فصائل الطبقات المستغلة في علاقاتهم
مع الجماهير , وانما نريد أن تكون الاغلبية من الشعب الى جانبنا في كل
الأحوال وبصورة دائمة على طريق المبادئ المعروفة للحزب والثورة في الوقت
الذي نسعى فيه لان نقنع ونحول الشعب كله على هذا الطريق . أن
المعالجات الصميمية والجذرية لمشاكل الشعب والظواهر الاجتماعية والاقتصادية
الاساسية وغيرها تتطلب الابتعاد عن التعتيم والاتجاه الى تخصيص الاهداف
والمعالجات والقوى الفاعلة الى جانب الثورة في نفس الوقت الذي يتطلب الامر
فيه تشخيص اعداء الثورة وتحالفاتهم في كل مرحلة من مراحل النضال , لذلك فأن
المطلوب الان التخصيص والوضوح … وذلك لكي (( نكسب )) كسبا ً صميمياً
وراسخاً ونجعل دور حزبنا قيادياً في تحريك وتغير قيادة المجتمع . أن
من بين الاساليب التكتيكية التي يمكن اعتمادها , احياناً , الانتقال الى
مواقع الخصم والتداخل معه عندما تكون متفنناً ومقتدراً في اجادة أساليب
القتال في الخنادق المتداخلة . ولكن في القضايا السياسية لقيادة الشعب
ومواجهة اعدائه والانتصار عليهم بصورة دائمة , هو ان تضع العدو في موقع ان
يجعلك متميزا ًعنه , وان تكون الساحة مكشوفة بينك وبينه بما يمنع تداخل
الخنادق ويحقق المدى المطلوب للاصابة المؤكدة لتتمكن بندقيتك من تأدية
واجباتها بدقة عندما يكون مطلوبا ً استخدامها وليس استخدام السلاح الابيض
او مهارة المصارعة . اما
عندما يكون مطلوباً استخدام الخنجر والحربة والوسائل الاخرى للاشتباك
القريب , فعندها يصبح التواصل مطلوباً لكي تستخدم هذه الوسائل والقدرات
استخداماً مؤثرا وصحيحاً , وفي نفس الوقت الذي تحتفظ فيه بالقدر اللازم من
التميز النسبي . فأي
الاساليب تطبق على مسألة التعصب الديني والمذهبي في هذه الرحلة ؟ هل
المطلوب أن نتحول نحن الى مواقع الناس الذين يطرحون المسألة الدينية
وطقوسها طرحا منحرفاً او خاطئاً عن طريق التداخل معهم والالتقاء (( المؤقت
)) مع مفاهميهم وأسالبيهم لكي نؤثر فيهن ونغير من قناعاتهم .. وبالتالي
نقودهم على الطريق الصحيح .. ام ان المطلوب هو التميز عنهم عن طريق طرح
كامل تصوراتنا المبدئية الصميمية في المنطلقات والاهداف والاساليب ؟ أن
التحول الى مواقعهم وخلط المفاهيم او قبول عدم الوضوح يخسرنا المعركة
ويهزمنا هزيمة ساحقة ويضعنا أمام أزمة فكرية في نفس الوقت الذي نخسر فيه
سياسياً, وبذلك نخسر من موقعين .. نخسر الارضية الفكرية التي نرتكز عليها
والتي هي مصدر قوتنا الاساس , ونخسر سياستنا كذلك , وبذلك نفقد التماسك
الفكري ونفقد التميز ونخسر جمهورنا . هل
نبعد استخدام المسألة الدينية , كوسيلة من وسائل الرجعية والاعداء ضد حزبنا
, عن طريق دعوة الحزبين الى ممارسة الطقوس الدينية وفق ما هو معروف
ومتدوال بطريقة تجعلنا نستدرج الى مواقع الرجعية الدينية وتفرقها الطائفي
.. ام أن الاسلوب المركزي والصحيح هو اعطاء موقف واضح للمسألة الدينية في
جوانبها العملية والنظرية كافة , وان نترك للشعب من حزبيين وغير حزبيين
حرية ممارسة الطقوس الدينية الصميمية وفق اختياراتهم ؟ أن
التدخل في الاساليب والممارسات مع الاوساط التي تفهم هذه المسألة فهماً
منحرفاً أو التي لا تفهمها فهماً صحيحا لا يحل المشكلة وفي نفس الوقت فان
الابتعاد عن الدين , بمعنى الالحاد .. هو نظرة مرفوضة من قبلنا وهي خاسرة
في كل الحسابات . كيف نتصرف أذن ؟ أن
بعض القوى المضادة صارت تستخدم الاهداف سياسية , فعليك أن لا تستخدم الدين
لاهداف سياسية وان لا تصطدم بهم بشكل مباشر وباساليب تقليدية . أن بعض
اوساط الرجعية عندما تتصرف تصرفات استفزازية ضد الثورة تحت غطاء الشعائر
الدينية فانها , وبدافع من الاستعمار , تقصد جر الثورة واجهزتها الى
التداخل في الشؤون الدينية وفق صيغ واساليب غير متوازنة بما يثير بما
اوساطا شعبية هي جزء من الحركة العامة للثورة ومصلحتها جزء من مصلحة الثورة
. إن سعي بعض الاوساط المشبوهة في هذا الاتجاه يقصد منه دفع الامور الى
الحد الذي يجعل بعض الحزبيين والعاملين في أجهزة الدولة يتصرفون تصرفات غير
منضبطة وغير واعية , من شأنها أن تأخذ الاغلبية بجريرة الاقلية المنحرفة ,
في الحكم العام او في الاجراءات التفصيلية , قاصدة من ذلك تحقيق هدف عزل
الثورة عن جماهيرها ودفعها الى حالة الخنادق المتداخلة .. بحيث يصعب التميز
بين العدو والصديق فتصيب بندقية الثورة صديقا او ابنا للثورة في الوقت
الذي تقصد فيه اصابة اعدائها من العملاء والمنحرفين . ان هذا الاوساط
الرجعية المنحرفة , والتي يحركها الاجنبي على الاغلب , تدرك بانها غير
قادرة على كسب الناس من خلال طرحها لحزب سياسي مضاد لحزب البعث العربي
الاشتراكي … لذلك فانها تتوجه الى جر بعض الاوساط من الناس خلال دعوتهم الى
ممارسة الطقوس الدينية وفق صيغ خاصة , عاملة على تحويل هذا المنهج في وقت
لاحق الى ولاءات سياسية مضادة ومناهضة للثورة . ويبني المحركون لهذا
التكتيك خططهم بالدرجة الاساس على افتراض أن يصدر عنا خطاْ في التصرف
التكتيكي فيسعون لتعتيم نتائجه بما يجعل تأثيراته سلبية على ستراتيجيتنا
وبما يرجح من حساباتهم في كسب المعركة او على الاقل ان يكون حاجزا نفسيا
بين الحزب وافكاره وبين اوساط معينة من الشعب , مما يعطل او يمنع تواصلها
مع افكار الثورة . إذن ,
فان المطلوب منا هو أن نكون ضد تسييس الدين من قبل الدولة وفي المجتمع ,
وضد اقحام الثورة في المسألة الدينية وان نعود الى اصل عقيدتنا , وان نعتز
بالدين بلا سياسات للدين , لانك حين تجعل من نفسك واعظاً او مرشداً دينياً
وتطلب , ومن موقع رسمي او حزبي , من الناس أن يؤدوا الطقوس الدينية , انما
يتوجب عليك أن ترشدهم الى كيفية اداء تلك الطقوس , وما يترتب عليها من
التزامات تبعية , واذا ما دخلت في ذلك فسوف تبدأ المشاكل والتعقيدات , حيث
تبدأ الاختلافات وفق اجتهاد المذاهب الاسلامية , أفليس هذا دخولا في
السياسية الخاسرة من أخطر أبوابها في الوقت الذي بامكانك أن تربحها عن طريق
آخر ؟ ان مما يبعد تأثير بعض الوسائل المضادة عنك هو الابتعاد عن مرمى
العدو عندما يكون المطلوب هو التمايز عن عدوك والانفصال عنه في خندق آخر ,
وأن تكون المساحة بين الاثنين مكشوفة , لذا فان الدولة اذا ما تبنت سياسة
للدين بما يجعلها تتدخل في طقوسه الاعتيادية , منعاً او سماحاً , فاننا
سنضع جماهرينا خارج تأثيراتنا وينقسم جمهورنا وينقسم حزبنا ويرتج البناء
الفكري الذي يرتكز عليه حزبنا , وبذلك يربح أعداء الثورة المعركة وتهزم
المبادئ وليس سياستنا فحسب . إن الناس العاجزين عن الابتكار هم الناس الذين يقلدون الاخرين ويستنسخون عنهم , وفي مجتمعنا نوعين من المقلدين : نوع
مستنسخ عن القديم وهم اليمينيون والرجعيون – ونوع مستنسخ عن ( الجديد)
ومنهم بعض الحركات السياسية التي تستعير معالجات وتجارب الشعوب الاخرى بما
في ذلك موقفها من الدين . آما
نحن فلدينا القدرة على الابداع والمعالجات الخلاقة المتطورة , وان الحياة
تستلزم التعامل بصيغ ووسائل وافكار متطورة , وحتى لو كان الايمان واحداً
لدى الجميع وكذلك طريق التعبير عنه .. بما في ذلك التجانس المذهبي , فأن من
غير الممكن أن نحشر معالجاتنا للشؤون الدنيوية للحياة الراهنة حشراً
فقهياً دينياً , لان مشاكل المجتمع الحديث الذي نعيش فيه , والمطلوب منا
معالجتها والتعامل معها , مختلفة اختلافاً اسياسياً عن المشاكل التي
واجهتها العصور الاسلامية الاولى التي وضعت فيها قواعد الفقه بحيث أصبح
التشريع والفقه الاسلامي احد المصادر المركزية التي تستقي أو تستلهم منه
التشريعات القانونية وليس قانون الحياة الراهنة , اضافة الى الانسياق وراء
الرجعية في اعتبار أن نظرية الحياة العصرية بما فيها من تطور , يجب ان تكون
انعاكساً لتعاليم الفقه القديم , يقود المسلمين الى الاختلاف الذي يؤدي
الى الفرقة نظراً لاختلاف المذاهب والاعتبارات الاخرى , وبذلك نكون قد
وفرنا الاجواء الازمة للاستعمار الجديد ليلعب لعبته الخبيثة في شق الشعب
وتسريب المخططات التي تستهدف الثورة والوطن العربي بأسره , بالاضافة الى أن
مثل هذا الطريق لا يعدو أن يكون جريا ًخلف السراب .. لقد اعتمد الله سبحنه
وتعالى أسلوب التدرج في الاديان فجاءت الديانة الاسلامية بعد الديانتين
الموسوية والمسيحية و وكذلك اعتمد اسلوب التدرج في الاحكام ضمن الدين
الواحد وفي كل ذلك اراد الله سبحانه وتعالى أن يعبر من خلال هذا المنهج عن
أهمية وجدية ملاحظة ومراعاة مستلزمات التطور والتفاعل الحي والمرن مع
الحياة وقوانينها … اننا لا نريد ان نحشر عقيدتنا وتحليلاتنا الفكرية
والسياسية حشراً دينياً معتمدين على أستشهادات وأسياسيات التحليل الديني . ولكننا
اردنا الاشارة الى ذلك من أجل التأكيد أهمية مراعاة تطور الحياة وشروطها ,
وعلى هذا الاساس فإن عقيدتنا البعثية ليست نسخة من نسخاً لأي تحليل أو
منطلق ديني … انها عقيدة الحياة للعرب وتحمل روح دعوتهم الى الخير والعدل
والعطاء والتضحية والتقدم بما في ذلك روح الدعوة الاسلامية ولكن بصيغ جديدة
ومن منطلقات جديدة وبحلقات مفتوحة للاجتهاد والتطور المستمرين , ولذلك فهي
, بالرغم من انها تحمل روح العرب في الاسلام , ليست عقيدة دينية وليست
مطروحة بديلاً أو نقيضاً لأية عقيدة دينية جديدة , وانما هو عقيدة دنيوية
جديدة , عبرت عن حاجة العرب اليها في بناء حضارتهم الجديدة بتصور واسلوب
ثوري في نفس الوقت الذي اتصلت فيه بروحهم في التراث والتاريخ . ان
تدخل الدولة لوضع سياسة معبرة عن الدين في منهجها التفصيلي الدنيوي يجعل
شعبنا ينقسم وفقاً للانتماء الديني والطائفي , لأنك عندما تبحث السياسة
الدنيوية على أساس اتصالها بالفقه الديني فإنك يجب أن تمون ازاء اجتهاد
ديني معين , فيضطرك الأمر لأن تسير وفق اجتهاد ديني ومذهبي خاص لأن الشعب ,
وانت جزء منه , ليس موحداً في النظرة المذهبية والدينية . وحالة من هذا
النوع تجعل الدولة واجهزتها وقياداتها أمام اختيارات منحازة
انحيازاًأكيداًفي الاجتهاد الديني والمذهبي , في التصور والممارسة , وهذا
ما يجب أن نرفضه رفضاً باتاً لأن التفكير فيه لا يمكن الا أن يخدم
الأستعمار أو أن يكون طريقاً مخرباً في أقل نتائجه , لأنه يؤدي الى الفرقة
كما قلنا . اذن
فإننا يجب أن يكون متوازيين ومتكامليين في هذه الامور , وان ننطلق من نظرة
شمولية ونظرة واقعية ثورية , لا من نظرة واقعية مستسلمة , لأن الأستسلام
للدعوات الرجعية لبعض الأوساط الدينية يستلزم ان تترك دورك القيادي للمجتمع
المتمثل في حركة ثورية تصنع الحاضر وتتطلع الى المستقبل بطرق وبصيغ واضحة
معروفة , زان تتخلى عنه لتنتظم في صفوف حركة سلبية متخلفة تقتصر على التطلع
الى الماضي … وتبدأ السلم من أوله . اذن , فحتى محاولتك التكتيكية (
التعبوية ) في التظاهر بتعقب الرجعية عن طريق الالتحام أو التمازج المؤقت
معها ضمن حسابات خاصة , على طريق فهمها لعلاقة الدولة بالدين , لن تهيء
فرصتك التكتيكية , لأن الرجعية الدينية وفق مثل هذه النظرة والسلوك سوف
تكون هي قائدة المسيرة , لا أنت , نظراً لأن لكل طريق ولكل منطلقات قادتها
ولذلك فلن تكون أنت الذي سيقوم بتعبئة الجماهير على هذا الطريق لتستطيع
التحكم في مساراته واتجاهاته اللاحقة ولتكييفه وفق ما تريد, وانما هناك
قادة غيرك من أوساط الرجعية متخصصون في هذه المسألة سيتولون هم الأمور على
طريقتهم . ومما يعبرعن نظرتنا المبدئية الصحيحة في الدين هو أن نرعى أماكن
العبادة جميعها وبفعل متوازن وبنظرة شمولية ومبدئية , ولا نروح لخصوصيات أي
من الذاهب الأسلامية واجتهادتها عن طريق الدولة ، لأن تصرفاً من هذا النوع
يمزق شعبا . وكذلك علينا أن نبتعد عن أن نجعل من مراكزنا الأعلامية
والثقافية ومؤسسات الدولة الأخرى ميداناً للتعددية المذهبية في طرح أفكارها
واجتهاداتها الخاصة المختلفة والترويج لها بتميز مذهبي واضح .فهذه
ليست مهمتنا ، فمهمتنا أن نتحدث بشكل متوازن عن تراثنا وقادة تراثنا
الروحي وقادة عبقريتنا القومية من الذين قدموا خدمة جليلة للأنسانية
وللعالم كله ، بالأضافة الى ماضينا المجيد ، ويجب أن يجري الحديث عن ذلك
الى أجيال شعبنا بشكل متوازن كما قلنا ، مبتعدين عن الخوض في الفرعيات من
المسائل المتعددة التي تنطوي على تباين في وجهات النظر من شأنها ان تقسم
الشعب الى فرق مختلفة وتبقي على تواصل الأمراض والسلبيات بين الجيل الجديد
والجيل القديم .فعندما
يكون بعض البعثيين وأفراد من الشعب عاجزين عن توحيد المجتمع تجاه القضايا
فعليهم أن لا يهربوا من الصورة التي لا يقدرون عليها فيتصوروا الحل
بالرمضاء أو بالنار ؟ ، ( أي بالالحاد أو بالأنقياد الى ما هو متداول ) .ان
عدم وضع حد قاطع وواضح لهذه الأمور يقود الى الأرباك والتجاوز في علاقتنا
مع شعبنا ونظرتنا الى بعض الممارسات الدينية ، مما يثير شعبنا أو جانياً
منه أحياناً . . وهذا ما يريده الأستعمار . اذ ليس أفضل من التصرف الخاطئ
في هذا الباب لاثارة الشعب ، فنخسر آباءنا ونخسر آبناءنا ونخسر أنفسنا
ونخسر الشعب . أما اذا كانت لديك تصورات واضحة وكلية في هذا الموضوع ووفق
الصورة التي أشرنا اليها فإن الاستعمار واعوانه سوف لن يتمكنوا من تسخير
الطقوس والأعمال الشكلية الى عمل وفعل تخريبي يقف في الخندق المضاد . .
ويستخدم الشعب ضد الثورة .فلندع الجميع يمارسون طقوسهم الدينية الاعتيادية
وفق اختيارتهم من دون أ، نتدخل في شؤونهم ، وشرطنا الأساس في ذلك هو أن
يبتعدوا في ممارساتهم تلك عن التناقض أو التصادم مع سياستنا في تغيير وبناء
المجتمع وفق اختيارات حزب البعث العربي الاشتراكي ، محذرين اياهم من أن
استخدامهم الدين غطاء للسياسة أو للوصول الى حالة من التناقض والتصادم بين
الثورة في منهجها واهدافها وبين الممارسات الديينة ، لا يمكن أن يكون الا
في خدمة الاستعمار الجديد واهدافه ، وان نشاطاً من هذا النوع لا يمكن الا
ان يقع تحت طائلة العقاب الصارم والقبضة الحديدية للثورة . . ولكن عندما لا
يكون هناك وضوح كاف في المنهج حول هذه المسألة فإن حالة من هذا النوع قد
تقود الى اجتهادات متضاربة أو غير مستقرة في اتجاهاتها ومعالجاتها ، وقد
تدفع الى صيغ استفزازية ، فنضطر الى أن ندخل المعركة مع القوى الرجعية التي
تستخدم الغطاء الديني ، وفق الصيغ والوقت الذي تختاره هي . . ان
مواجهة هذه المسألة مواجهة لا منهجية ومبتورة التصور والمعالجات ،
والانسياق المفتعل مع التيار ، أو مواجهته بصيغ ظرفية منفعلة ، أو حشر
المنهجية العامة بالحالات الظرفية الخاصة بما يسيء الى اتجاهاتها العامة
وسماتها المركزية ، من شأنه أن يلحق اضراراً بالغة بمسيرة الثورة وبمبدئية
الحزب . ومن جملة التعبيرات الضارة عن مثل هذا النهج المرفوض ، هو أن يرد
على استخدام الدين استخداماً سياسياً مضاداً بالدعوة الى الألحاد أو
بالدعوة الى تبني المظهرية الدينية . . أو بالدعوة الى التدخل في الشؤون
الدينية وطقوسها وصولاً الى التفاصيل الصغيرة . . لا بد من وجود نهج ثابت ،
كما أشرنا ، وعند ذاك لا يمنع النهج الثابت من أن تتفرع عنه وسائل أو صيغ
تعبوية مرحلية أو ميدانية . أما الارتجاج بين اليمين او اليسار وبين الصورة
والصورة المعاكسة فهذا مرفوض وغير مسموح به الأنه أسلوب العجزين أو أسلوب
اللاأخلاقين ولا يسلكه أصحاب المبادئ الواضحة . ان
أمور الحياة يجب أن توضع بسياقات مبدئية ومتوازنة , فنحن نقود مجتمعاً في
آواخر القرن العشرين وليس مقبولا منا أن نتحدث في العموميات , ولا مسموحا
لنا أن نتحدث في كل يوم حديثاً مغايراً أو أن نسلك كل يوم سلوكا مختلفا ,
أو أن نعطي في القضية الواحدة نوجيهات مختلفة فنتحدث , مثلاً, في وزارة
الصحة حديثاً معنياً ثم نذهب الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لنتحدث
بشكل مغاير , أو أن نقول للمحامين : أنتم الأساس في بناء المجتمع والثورة ,
ونذهب الى العمال ونقول لهم : انتم الاساس , وكذلك للمرأة أو للشبيبة .
فهذا لا يجوز , اذ لابد من وجود مفاهيم وممارسات محددة وواضحة قد يزعج
بعضها جزاء من الشعب مؤقتاً ولكنه يجب أن يرضي المبادئ … ويرضي
الأغلبية على طول الخط … لا يجوز أن يكون موضوعنا الان هو توجيه الصراع
على أساس انه صراع مع أوساط رجعية وموضوعه التباين بين موقفنا وموقفهم من
هذه المسألة , فهذا ليس هو الموضوع المطروح وعلينا أن لا ندخله الا دفاعا
عن الثورة ضد أغطية الرجعية ونواياها التخريبية , ولا ينبغي لنا أن نتوهم
كذلك اننا يجب أن ندخل معركة سياسية بصيغة من هو مع الدين ومن هو على الدين
, لأن هذا المدخل ان دخلناه الان فسيدخل الاستعمار والنفوذ الاجنبي الى
صفوفنا من نافذة جديدة , ففي الوقت الذي نرفض فيه الالحاد يجب أن لا نتحول
الى رجال دين في التعامل مع هذا الموضوع , ونحول الدولة واجهزتها باتجاه
تأدية الطقوس والمهام الدينية التفصيلية . ان انتهاج سياسة للتدخل في
الشؤون الدينية يؤدي الى أن ينقسم شعبنا ليس بين المتدينين وغير المتدينين
فحسب وانما بين المتدينين أنفسهم بضوء أجتهاداتهم وانتماءاتهم الدينية
والمذهبية المختلفة . ابتعدوا
عن التدخل في حياة الناس ، وادخلوا بالمفاتيح والحلقات الأساسية والمركزية
التي تضمن المسيرة باتجاهها الصحيح دون الأنغماس في التدخل في التفاصيل
الصغيرة من حياة الأنسان او في معتقداته الدينية . . لأنكم عندما تتدخلون
في خصوصيات الناس ينفرون منكم ويبتعدون عنكم ويكرهونكم .عليك
أن تلتقط المفتاح المركزي وان تسير به ومن خلاله الحركة العامة للمجتمع ،
وان تترك بعد ذلك نهايات حركة المجتمع وتفاصيلها الفرعية والفعاليات الخاصة
المشروعة والمؤطرة في اتجاهاتها الرئيسة بالقوانين العامة لحركة المجتمع
ودور الحزب القيادي ، ولا تحاول أن تلف الحزام على الشعب من الرأس الى
القدمين فتتركه بلا حركة وتطلب اليه أن لا يتألم ولا يتمرد .فعليكم
، ايها الرفاق ، أن تلتقطوا المفاتيح المركزية ( كما قلنا ) التي تتعلق
بعقيدتكم وبمستلزمات تغيير المجتمع ، وفق السياقات التي تريدونها ، وعندها
لا خوف من العدو الخارجي الذي ينتظر خلف السياج ، اذا ما بقيت أبواب
الممرات الداخلية مفتوحة ، وعندها لا يؤدي ثقل المفتاح المركزي في جيبك الى
تمزيق بطانة الجيب مثلما تفعل مجموعة كبيرة من المفاتيح الداخلية ،
بالأضافة الى ما تحتاجه تلك المجموعة الكبيرة من المفاتيح من تعقيد كبير
لأستخدمها وما تسببه من ارباك عندما تستخدم بديلاً عن المفتاح المركزي . وهنا
يستخدم عامل الزمن لأغراض التدرج وصولاً للهدف ، ليس بحادية وانما بمنهجية
ويلعب الأنسان بإرادته دوراً مركزياً فيها . . ان الظاهرة المرضية التي
تضايقك والتي تكون عميقة الجذور والتأثير في أوساط من الشعب بمقدار معين
ولكنها قاصرة على قلة منه فلا بأس من أن ندخل المعركة معها ، وتكون جريئاً
في دخولها ، وان تعطي خسائر من أجل سحقها ، ولكن اذا كانت الكثرة من شعبك
مع تلك القلة من الناس التي تقود الظاهرة المرفوضة ، فعندها يتوجب عليك أن
تجيد التصرف دون أن تتخلى عن مسؤوليتك القيادية في العمل والتربية ، وافضل
صيغة لذلك هي : أن تلتقط المفاتيح والحلقات المركزية وتترك النهايات مرنة
في حركتها ، ما دام التقاط مثل هذه المفاتيح سيؤدي في الدفع وفي الاتجاهات
العامة ، في التربية وفي الأجراءات ، الى تحقيق الهدف أو الأهداف التي كنت
قد أشرتها في منهجك المرسوم . والفرق بين الوصول الى الهدف على تلك الطريق
وبين الوصول اليه على هذا الطريق بخسائر أقل ، هو مجرد عامل الزمن ، وعليك
أن تقبل بمراعاة عامل الزمن على ألا يفلت من يديك الزمام ولا تدع الزمن
يستخدم لكي يفلت من يديك الزمام فيصبح دورك ثانوياً بدلاً من أن يكون
قيادياً ، أو تفوت عليك فرصة تاريخية ، ووفق هذا القانون نسير في السياقات
المطلوبة وشرطها الأساس هو الأبتعاد عن الأكثار من التدخل في حياة الناس ،
اذ أ، كل الأنظمة التي تتدخل في حياة الناس تدخلاً تفصيلياً ، غير مسند
بقناعة الأغلبية وبحاجة موضوعية واضحة ، بما في ذلك معتقداتهم وطقوسهم
الدينية ، سوف تصبح مكروهة ، وهذا هو جانب من أزمة الكثير من الأنظمة
والعقائد في العالم . ان كثرة التدخل في حياة الناس بحيث يصبح الناس كخيول
العربات مغلقة الآذان ومحددة في حركة العيون ، ولا ترى على جانبي الخط
المؤشر واتجاهاته ، بسبب التحكم التفصيلي في حياتهم تحكماً مباشراً لا عن
طريق التوجيه والتثقيف والاعراف والقوانيين العامة ، ان ذلك اتجاه مرفوض
ولا نريد أن نطبقه على شعبنا لأسباب تحدثنا عنها كثيراً .أيها
الرفاق . . ان الشباب والشيوخ هم مع الثورة بحماسة وبلا حدود ، فلا
تصطدموا بهم ، أنهم معكم وهم راضون بهذه المسيرة ، فلا تتوغلوا في الفرعيات
التي تؤدي بكم الى الاصطدام بهم ذلك لأن التصرف غير الطبيعي يستفز حتى
الوسط الذي ليس له غرض محدد وواضح في العالم ضدكم ولا يريد الاصطدام بكم ،
ولكن الصيغة التي تمارسونها تجاهه عندما تكون غير طبيعية وغير مسوغة ،
فإنها تستفزه ، وعندما نكون طبيعيين ومبدئيين وواقعيين ثوريين فإننا نكسب
أوسع الجماهير . . وتبقى القلة فقط متعارضة معنا ، في ميادين ونشاطات
وشرائح معلومة ، وعندها تسهل معالجتها وتكون الخسارة في معالجتها خسارة غير
جوهرية وليس من شأنها أن تلحق ضرراً مبدئياً بمسيرة الثورة . . ولذلك
فاننا في الوقت الذي شددنا فيه على الأبتعاد عن تحويل الحزبيين الى رجال
دين أو الأصطدام برجال الدين وفق الأسس التي تحدثنا عنها ، فاننا في نفس
الوقت نحذر من أن نتحول الى رجال دين في علاقتنا بالشباب وبممارساتهم
الأجتماعية والخلقية بما يجعلنا نحول صيغ التعامل معهم ونقد بعض تصرفاتهم
المتعارضة مع تصوراتنا الأجتماعية وأخلاقنا الى نمط من الصيغ القسرية
والعلاقة الامرية مما يبعدنا عن خطنا السليم . . . علينا اعتماد الأقناع
وسيلة مركزية في علاقتنا مع المجتمع معززين ذلك بالتثقيف المستمر وبالدلالة
على الصيغ والعلاقات الأجدى وعلينا أن نحافظ على توازننا المبدئي
وسياساتنا الواضحة والمبدئية ، وان نبتعد عن التدخل التفصيلي والاقحام غير
المسوغ .